top of page
  • Writer's pictureBahaa Awaad

يوم الإثنين الأخير (رواية)







إهــداء إلى .....


فرج فودة





(تضمينات " إدجار آلان بو " فى النص من ترجمة المؤلف)







[ 1 ]


أبصق على الماضى بكل ما فيه، فلتجد وطناً حراً تعيش فيه ما تبقى قبل الاضطجاع مع الأجداد، فى الأرض بباطنها الأكثر رحمة من ظاهرها، ركن ضيق ودخل محدود وجهاز تليفزيون وثلاجة وقابلية للسفر بأوراق جيدة، وأيام تطول أو تقصر إلى أن تأتى النهاية.. المهم متى تأتى الحرية؟

الاثنين... الثانية ظهراً.. التليفزيون يعرض برنامجاً مملاً عن الأخطبوط وأنا فى الزنزانة الضيقة... يخطر ببالى أنه يجب أن تبحث عن سر قوتك بداخلك وأن تستغل هذه القوة لتحقيق حريتك... هذه هى القصة كاملة، ألا سحقاً لكل ثانية من ثوانى الماضى.

(يمو ليسكاس) زميلى فى الزنزانة، فى الثلاثين من عمره، من (ليتوانيا) بسببه أحب هذا البلد وبسبب فتاة قابلتها في أمستردام، سألتها إن كانت من روسيا فأجابت بالنفي، وأضافت معتزة بقوميتها وجمالها فى آن واحد: من ليتوانيا.

نوع يسلى السجين طمعاً في أن يكون منه زميل زنزانته، لا يتحدث إلا نادراً وإذا تحدث تحدث قليلاً، على أنه لا يخلو أيضاً من مرح وبشاشة، هادئ مُتزن مضياف عن كرمٍ حقيقي، وأذكر أن ابن شقيقتى عندما كان فى نحو العاشرة من عمره كان أول من نبهنى أن من الكرم ما هو كرم حقيقى عندما قال يصف ابن عمته بأنه: " كريم بجد" وقد لفت انتباهى التعبير على ما فيه من عفوية واستعصى على فهمى حتى قرأت قول المتنبى:


"وللنفس أخلاقٌ تدل على الفتى

أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا"

كان على وشك احتراف الملاكمة قبل إلقاء القبض عليه، لم أخض معه طويلاً فى تفاصيل قضيته إلا أن ما فهمته منه ومن " حامد التونسى" أنها قضية مخدرات ثقيلة العيار تلقى بسببها حكما بالسجن لعشرة أعوام وقد قام باستئناف هذا الحكم وهو الآن فى انتظار النظر فى ذلك الاستئناف وعلمت من حامد أنه قد شنق نفسه فى زنزانته بعد النطق بالحكم وتم إسعافه بما يشبه المعجزة، قضى بعدها شهرين فى مستشفى السجن، تحت عناية طبية فائقة. [ 2 ] كأنه موعدٌ مع الشيطان، الاثنين... صباحاً.. أخبرنى الحارس أن عليّ الاستعداد للذهاب للعيادة بعد عشرين دقيقة، كنت قد أنهيت الإضراب عن الطعام منذ ما يقارب الشهر، وما من سبب يدعو لاستدعائى، لذلك ولسبب ما انقبض صدرى، هذه الطبيبة هى شيطان متجسد ذو وجه دميم، قضيت ساعتين كاملتين فى غرفة الانتظار وأنا أتوقع شراً، أخذت التعسة وزنى، وضغط الدم، ثم أخبرتنى أننى لا آكل ونقصان وزنى يقطع بذلك، أقسمت لها أننى آكل بشكل طبيعى فقالت أنها لا تصدق وأن وزنى قد نقص بشكل حاد ولذلك سيتم نقلى إلى القسم الطبى ليكون أكلى من عدمه تحت الملاحظة، وهكذا عُدت إلى الزنزانة وأنا أتوقع مزيداً من الشقاء والعناء والوحدة وعصراً فُتح الباب، ولدهشتنا سوياً أخبرنا الحارس أنا و"يموليسكاس" أننا سننتقل سوياً للقسم الطبى، حاول أن يستفسر أو يحتج إلا أن القرار كان قاطعاً، ولقد كانت تلك مفاجأة سارة لى لأكثر من سبب، أولا أنه زميل زنزانة يندر أن يتكرر لأخلاقه الطيبة ومعشره الحلو، وثانياً لأنه يملك التليفزيون والحياة فى السجن دون تليفزيون لا تطاق. وكنت قد بدأت أقلب الاحتمالات السيئة كأن يكون زميلى القادم لا يمتلك تليفزيوناً أو أننى قد أصبح وحيداً أعانى العزلة... إلخ. عندما كنا ندفع الأمتعة على العربة قابلنى "زهير الجزائرى" صدفة فى البهو فسألنى: "إلى أين يأخذونك"؟ فأجبته: إلى القسم الطبى.. فكرر السؤال : إلى أين يأخذونك ؟ فكررت الجواب : إلى القسم الطبى ، كان القسم الطبى مكوناً من زنازين تسع كل واحدة سجينين كالسجن العادى إلا أن الزنزانة هنا أوسع بمقدار الضعف ثم أن دورة المياة مستقلة فى جانب الزنزانة وذات باب يمكن إغلاقه وشفاط للروائح وليس ستارة ومبولة قذرتين كما هو الحال هناك.. كما أننا نملك نافذة نطل منها على ساحة التهوية، أما الأخبار السيئة فهى أنه لا يوجد ثلاث ساعات تفتح فيها أبواب الزنازين للتجوال كل يومين، ليس هنا سوى ساعة التهوية اليومية فى الخارج، كما أن التليفزيون لا يلتقط هنا القناة السابعة أفضل القنوات إطلاقاً، فارقٌ آخر غير ذى بال أن وجبة الغذاء تسلم هنا فى الزنزانة فلن ندعى إلى النزول إلى المطعم..









[ 3 ] أيامى الأولى فى السجن قضيتها مع الوغد العراقى ولم ألتق بالطبيبة المعتوهة إلا عندما بدأ إضرابى عن الطعام ، واستدعتنى لتخبرنى أن الإضراب خطرُُ على حياتى وأنها غير مسئولة عمّا قد يحدث لى ... كان حديثها وقحاً ومتعالياً وكذلك كانت ردودى .. استمر إضرابى عن الطعام أسبوعين كاملين لم أذق خلالهما سوى الماء القراح ، ثم أنهيته وعدت إلى الطعام والشراب بشكل اعتيادى . وقد مرّ على ذلك خمسة وعشرون يوماً ، فلماذا أنقل الآن إلى القسم الطبى ولم أنقل إليه أيام الإضراب؟ ولماذا خسارة الوزن وأنا آكل بشكل طبيعى ؟! أكثر من علامة استفهام وعلامة تعجب !!




[4] صباحاً فتحوا الأبواب للإفطار ، وبعدها بساعة فتحوا ثانية للاستحمام ، تناولت القهوة بعدها مع يموليسكاس ثم تم استدعاؤه لمقابلة الطبيبة ، ومر وقت قبل أن يُفتح باب الزنزانة وتدخل الممرضة ، سلّمتنى زجاجة عبوتها نصف لتر من دواء مقوى ، كان على ورقتها أسماء عدد هائل من الفيتامينات والمقويات وقالت أن علىَّ أن أشربها كاملة وأن زجاجة مثلها ستُسلم لى يوميا لأشربها كاملة . أغلقت الباب وانصرفت ومر وقت آخر قبل أن يأتوا بيموليسكاس .. لفتت الزجاجة انتباهه فأخبرته بشأنها ثم سألته عما وراءه فقال أنها أخبرته أنه هنا فقط ليكون معى لأنه لا ينبغى أن أكون وحدى ، فسألته عما إذا كانت قد قالت متى سنبقى هنا فأجاب بالنفى ثم أضاف أنه سيطلب بعد عشرة أيام على الأكثر أن يعود أدراجه فباب الزنزانة هنا مغلق على الدوام أما هناك فيوجد على الأقل ثلاث ساعات للتجوال كل يومين كما أن التليفزيون لا يلتقط هنا سوى قنوات بائسة .. أمنت على ما قال ووجدت نفسى أفكر فيما يعنيه ذلك كله وما هى الحكمة فى الجمع بين سجينين ظهرت من كليهما ميول انتحارية . الواقع أن الإدارة لم تكن هى التى جمعت بيننا من بادئ الأمر وإنما طلب كلانا أن نكون فى زنزانة واحدة بعد أن تعارفنا فى ساعات التجوال ، كان يبحث عن زميل لا يدخن وكنت قد توقفت عن التدخين منذ ما يقارب العام ، كان الوغد العراقى هو أول زميل لى وكان ينتظر حكماً بالسجن لمدة لن تقل عن ثمانية أعوام لجريمة مزدوجة ، الإتجار فى الحبوب المخدرة وممارسة الجنس مع قاصر من زبائنه وهى تحت تأثير الحبوب .. ولم يكن أحدنا يطيق صاحبه وإن كنت قد أخذت عيه أساساً رفعه لصوت التليفزيون والراديو لدرجة تدل على انحراف عقلى وأخذ هو علىّ إشعالى لضوء الزنزانة للقراءة حتى ساعة متأخرة من الليل ، وافترقنا سريعا بعد أن طلبت النقل من زنزانته ولو إلى زنزانة شيطان ، وكان الشيطان هو الأحمق البرتغالى .. كان ثرثاراً كأنما خُلق لسانا ثم أضيف إلى اللسان آدمى ، وكان يطلق علىَّ اسم " صبرى " تسميةً على " عبد الستار صبرى " لاعب الكرة المصرى فى الدورى البرتغالى ، لم يكن ينادينى إلا بهذا الاسم حتى كدت أُعرف به بين المساجين ... ألقوا القبض عليه وهو يحاول إنفاق ورقة مزورة من فئة الخمسين يورو فى أحد المتاجر وبتفتيش منزله والتحرى عنه لم يجدوا ما يدعم كونه مسئولاً عن طباعتها أو توزيعها فأطلقوا سراحه ، وأتوا لى بزهير الجزائرى وكان قادما رأساً من مصحة الأمراض العقلية التابعة للسجن وقد اعتُقل أصلاً لاشتباكه فى مشاجرة بالأيدى بلا سبب مع دورية سائرة للشرطة . كنت أبحث عن زميل يملك تليفزيوناً فوجدت " يموليسكاس " وكان يبحث عن زميلٍ لا يدخن فوجدنى وشهد معى إضرابى عن الطعام وإنهائى له وها هو ذا معى فى القسم الطبى كملاك حارسٍ من قبل الإدارة . عند الظهر أتوا بالغذاء وأخبرنى السجين العامل على توزيع الطعام أن على أن آكل خارج الزنزانة على طاولة أتوا بها خصيصا وأنه سيراقبنى وأنا آكل بينما يقوم بتوزيع الطعام على باقى الزنازين ، وأن علىّ أن آكل الصحن كاملاً ، ليرفع تقريره بذلك إلى الطبيبة ، جلست لآكل ولأول مرة أنتبه إلى أن أكلى قد لا يكون بالفعل طبيعيا ، أحسست بالشبع بعد بضع لقيمات ، وتذكرت أننى أسلم الصحن فى المطعم يومياً وهو ما زال مملوءاً حتى منتصفه أو أكثر ، ولذلك كان إنهائى للصحن شبيها بمهمة شاقة وعسيرة . من أين آتى بالشهية فى هذا المكان يا أبناء السفلة والقوادين ؟ أطلقوا سراحى تأتى الشهية !! [ 5 ] أما يوسف فقد التقطه بعض السيارة من الجب فمن يلتقطنى من هذا الجب ، وأما يوسف فقد خرج من السجن ليجلس على خزائن مصر ، فمن يخرجنى من السجن ولو لأجلس على قارعة الطريق . وإلى متى تمضى الأيام على هذا النحو .. أتناول وجبتين خارج الزنزانة تحت مراقبة " فولكر " السجين العامل فى القسم ، وأشرب يومياً زجاجة المقوى .. والتليفزيون هو الصديق الأوفى ، رغم سخف برامجه ، لا حديث فيه إلا عن المليونير الشاذ الذى قتله مومس فى ميونيخ اختلافاً على أجر خدمته ... وفضيحة التعذيب الجديدة فى العراق والمتهم فيها هذه المرة جنود بريطانيون ، والوزير الألمانى الذى حلَّ سجيناً فى سجننا هذا بالذات إثر قضية فساد . وارتداء إبن ولى العهد البريطانى لزى تنكرى يحمل الصليب المعقوف رمز النازية فى حفلٍ للمراهقين . ترى كيف كان يوسف يقضى سنوات السجن ظلماً .. ما من تليفزيون فى سجون مصر ليس فيها إلا الظلام والأحلام . ووجدت نفسى أفكر فى عبارة وردت فى القرآن على لسان إخوة يوسف عندما أخرج المتاع المسروق من رحل أخيهم (( لئن يسرق فقد سرق أخُ له من قبل )) لدى نسخةُ من الكتاب المقدس بعهديه ، فتحتها على قصة يوسف فى سفر التكوين فلم أجد أثراً لعبارة كتلك . فمن أين أتى إخوة يوسف بهذا الاتهام الذى ألقوه فى وجه أخيهم وهم له منكرون ؟ وكيف يمكن أن يكون الاتهام بالكامل محض تلفيق رغم العفوية التى خرج بها ؟ ووصل بى التفكير أن المقصود لابد أن يكون أن يوسف قد سرق قلب أبيهم ... ووجدت نفسى مرتاحاً إلى هذا التفسير .. [ 6 ] ذات عصر وأنا أتناول العشاء خارج الزنزانة كالعادة ، فُتح باب القسم ودخل سجين يقوده الحارس ، كان ضئيل الحجم متجهم الوجه ، تلاقت عيناناً قبل أن يمضى مع الحارس إلى حجرة الطبيب وسألت نفسى أين رأيت هذا الوجه ، وفوراً عرفت الجواب وأسرعت أنادى "يموليسكاس " ليراه فهرول من داخل الزنزانة وأدركه بنظره قبل أن يُغيّبهُ الباب ، كانت هذه أول مرة نراه رأى العين وكنا نراه فى التليفزيون منذ اعتقاله مرات عديدة يوميا فى كل نشرة أخبار دون استثناء ... ووجدت فى نفسى شعوراً جارفاً بالشماتة لم أدر كيف أشخّصه !! هذا وزيرُُ ألقت به الدنيا فى زنزانة ضيقة مثلى سواء بسواء .. كان هذا داعيا للراحة بداخلى على نحو ما .. تماماً كما أسعدتنى قبل ذلك فيضانات آسيا .. خصوصاً وقد أسفرت عن هلاك آلاف السياح الأوروبيين .. لم أشغل بالى طويلا بالمنفذ الذى تسللت منه هذه المشاعر الشريرة إلى نفسى ، فما هى مشاعر غريبة على سجين ، ومن الناس من يموت فى زلزال مروع وهو فى رحلة للسياحة والاستجمام ، أبعد ما يكون عن التفكير فى أى خطر ومنهم من يموت سحقاً تحت الأقدام المتدافعة فى الحجاز وما قصد إلا الحج والثواب من الله تعالى ومنهم من يموت فى برج مشيد فى نيويورك لا لشئ إلا أن شاعراً لا يعرفه من قوم لا يعرفهم قال منذ قرون : "ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطينا"

ومن الناس من يُساق من مقاعد السلطة إلى غياهب السجون ومنهم من يخرج من غياهب السجون إلى مقاعد السلطة وصدق من قال : " دائم الحال : محال " والأوفق فى رأيى أن لا يطرب الإنسان لحال باسم أو يجزع من حالٍ دائم وعلمنا أن الوزير قد نقل إلى القسم الطبى معناً وأصبح بإمكاننا أن نراه اعتياديا فى أوقات توزيع الطعام أو فى ساعة التهوية التى كان "يموليسكاس " يحرص عليها .. أما أنا فلم أكن أخرج إليها إلا فيما ندر ... منذ أن بدأ الشتاء ، إذ لم أدر ما المتعة فى البقاء ساعة كاملة فى درجة حرارة تقل عن الصفر عدداً من الدرجات قد يزيد أو ينقص ... وكان يموليسكاس قد أكد لى سابقاً أن بحوزة هذا الرجل ولا شك أسراراً تمس كبارا فى الدولة وأنهم سيجدون طريقة ما لإطلاق سراحه إتقاءً للسانه وقد وجد فى نقله للقسم الطبى دعماً لنظريته تلك إذ اعتبره تمهيداً لإخلاء سبيله لأسباب صحية . قلت لنفسى إن ذلك مما يصح فى مصر فماذا يمنع أن يصح فى ألمانيا ؟ وفكرت أن الخير فى هذه الحياة قد يكون فى أن يولد الإنسان أميراً تتابعه العدسات منذ مولده وحتى وفاته إن جدّ أو هزل ... ولا يجد نفسه يوما مضطراً للسرقة أو للإتجار فى المخدرات . وقديما أنشد المتنبى بين يدى سيف الدولة : "سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأننى خير من تسعى به قدم"

قالوا له ماذا أبقيت للأمير من فضل بعد ما نسبت لنفسك ؟ وكأن فضل الأمير أكبر من فضل الشاعر !!! ابن ولى العهد البريطانى يرتكب حماقة فى حفل فتطيّرها وكالات الأنباء ... ولو بُعث شكسبير حياً لما شعر به أحد ، هذا إذا لم يجد نفسه لسبب أو لآخر .. خلف القضبان ..


[ 7 ] ولد " إدجار آلان بو " فى بوسطن عام 1809 ومات والداه قبل أن يبلغ العامين " جون ألان " أحد الأثرياء من " ريتشموند – فرجينيا " أخذ الصبى إلى منزله ، كان " بو " طفلا شديد الذكاء واعتنت السيدة " ألان " بتعليمه ، لكن " جون آلان " لم يكن عطوفا على "بو" ، وكلما تقدم الصبى فى العمر كلما زاد نفوره من الرجل الثرى ، لم يكن متفوقا فى المدرسة أو الجامعة وفى عام 1827م غادر منزل آل " آلان " إلى الأبد .. عمل فى الصحافة فى " ريتشموند " ، " فيلادلفيا " و " نيويورك " وكتب قصائد وقصصا قصيرة فى هذه الفترة أيضاً ، ولكنه كان أقرب إلى الفقر طوال حياته ـ كانت حياته صعبة وشاقة وفى الحقيقة كانت لديه مشاكل صحية .. مشاكل مع الشراب ومع المخدرات وفى أوقات كان قريبا من الجنون . فى عام 1936 تزوج من قريبته " فرجينيا " وكانت وقتذاك فى الرابعة عشرة ، وماتت بعدها بأحد عشر عاما .. بعد وفاتها بدأ " بو " يشرب أكثر وكتب : لقد أصبحت مجنوناً فى تلك الفترة كنت سكيراً ، أعدائى اعتقدوا أن جنونى كان بسبب الشراب .. وكان ذلك طريقا آخر للالتفاف " مات "بو" فى عام 1849 ، ودفن إلى جوار فرجينيا .


[ 8 ] من حق كل سجين تبديل ثلاثة كتب أسبوعيا من مكتبة السجن ، كل ما عليك هو أن تحدد من الكاتالوج أرقام الكتب المطلوبة وتضعها فى كارت خاص تسلمه مع الكتب القديمة إلى السجين المكلف بالعمل فى القسم ، كانت أغلب العناوين الإنجليزية لروايات بوليسية وروايات مخابرات ، ومع ذلك وجدت أكثر من عنوان جيد ، منها كتاب يتتبع جذور وسيرة عائلة " كنت " الأمريكية ومسرحية " كريولانس " لشكسبير أما الكتاب الذى اعتبرت العثور عليه هو بمثابة العثور على كنز فهو مجلد يضم قصصا ً قصيرة وقصائد لـ " إدجارألان بو " ولم أكن قد قرأت أيا منها من قبل ، وأشهد أنها نالت إعجابى حتى أننى كنت أعيد قراءة القصة أكثر من مرة ، لم يكن فى المكتبة سوى عدد محدود من العناوين العربية أذكر منها كتاب " الاستعداد ليوم الميعاد " لابن حجر العسقلانى وهو عبارة عن تجميع وتبويب لأحاديث نبوية وأقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين والعارفين بالله ، علق منه فى ذهنى أن جبريل عليه السلام قال : " يا محمد ..عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزى به " ، وحديث عن النبى - ص - أنه قال : " حُبب لى فى دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وجُعلت قرة عينى فى الصلاة " وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه حاضراً فقال : "وحبب لى فى الدنيا ثلاث: النظر إلى وجه رسول الله، والصلاة خلف رسول الله، وأن تكون ابنتى تحت رسول الله" . وبيت شعر يقول:

"اصبر على أهوالها لا موت إلا بالأجل"

وأذكر أيضاً ترجمة رائعة بقلم الدكتور " سامى الدروبى "لرواية يوجوسلافية للكاتب " إيفو إندريتش " بعنوان " جسر على نهر درينا " تتتبع قصة حياة جسر فى " البوسنة " منذ بنائه وحتى نسفه تروى من خلال قرنين من حياة الناس عبره وحوله والرواية اعتبرها واحدة من أفضل ما قرأت فى حياتى ، كذلك أخطأت وطلبت لسبب لا أدريه الأعمال الكاملة لـ " محمود درويش " وقد ساءنى كثيراً عندما حاولت قراءتها أن أتذكر أن نفس هذه القصائد نالت إعجابى يوماً ما . ومسرحية رديئة لشوقى بعنوان : " أميرة الأندلس " ومكمن رداءتها ليس فقط فى مستواها الفنى ولكن فى كونها تنضح بالملكية المقيتة . وترجمة عادية لإحدى روايات " كولن ولسون " ووجدت أيضا رواية " أولاد حارتنا " لـ " نجيب محفوظ " فأعدت قراءتها ، وأدهشنى كثيراً أن أجد كتاب " معالم فى الطريق " لسيد قطب وكان الحارس الذى قام بتفتيش أمتعتى لدى الدخول قد قام بحجز كتاب بالإنجليزية مع أشياء أخرى تسلم عند مغادرة السجن ، كان الكتاب بعنوان : "الإسلام والإرهاب" قلت له إن هذا الكتاب مضاد للإرهاب فقال إننا لا نريد هنا ما له صلة بالإرهاب سواء كان مضاداً أو مؤيداً وإذا بى أجد فى مكتبة السجن كتاباً يعد بحق البيان التأسيسى لكافة الحركات الإرهابية الإسلامية الحديثة .. ومن الواضح أن موظفاً يجهل العربية قد قام بانتقاء هذه الكتب عشوائياً من إحدى المكتبات لتوضع فى مكتبة السجن . [ 9 ] أسبوعان بالتمام والكمال مرا على نقلنا للقسم الطبى ، وها نحن نعود إلى القسم العادى ، كانوا قد توقفوا عن إعطائى الدواء المقوى منذ أيام ، وكذلك أصبح بإمكانى أن آكل اعتيادياً فى الزنزانة دون مراقبة. صباحاً دعتنى الطبيبة وقالت إننى سأعود اليوم ، وإن وزنى قد عاد إلى المعدل الطبيعى وأن علىَّ أن آكل من الآن فصاعداً كما كنت آكل تحت المراقبة حتى إذا لم أجد الشهية للطعام وإلا فإن إجراءات رادعة ستتخذ بحقى . لم أجد رغبة فى الحديث فأومأت موافقاً برأسى ، وهكذا عدنا إلى قسمنا القديم وإلى زنزانة ملاصقة لزنزاتنا القديمة حيث التقاط الإرسال التليفزيونى على أفضل ما يكون .. الفارق الوحيد هو أن زنزاتنا الجديدة لو كانت مسكونة بخنازير برية لما أمكن أن يتركوها أكثر قذارة ، وهكذا أمضينا ساعتين كاملتين فى تنظيفها بعناية . فى اليوم التالى فُتحت الأبواب مساءا للتجوال ، بحثت عن حامد التونسى فلم أجده ، ولم أكن قد رأيته فى المطعم وقت الغذاء ، كانت زنزانته مفتوحة وفارغة وفى الممر قابلت زميله الرومانى البدين فأخبرنى أنهم قد أطلقوا سراحه ، كنت أعلم أن موعد محاكمته وشيك ولكن إطلاق سراحه كان مفاجأة لى فسألته إن كان تم تبرأته فقال إنه أخذ حكماً بالسجن مع وقف التنفيذ .. كان قد مرّ عليه ثلاثة عشر شهرا فى السجن فأسعدنى خروجه حقاً .. وقابلت زهير الجزائرى فأكد لى الخبر وحصلت منه على جريدة عربية صادرة فى لندن كان قد مر عليها أسبوعان فقط.


[ 10 ] وقصة حامد التونسى تستحق أن تروى ، كان يدرس الكمبيوتر فى جامعة بميونيخ ويعمل فى أوقات الفراغ فى أحد المطاعم ، وكان ممكناً أن تمضى به الحياة فى سهولة ويسر لولا أن أغراه أحد أبناء بلده بالاتجار فى الحشيش وجرت النقود وفاضت فى يده ومرة أخرى كان ممكناً أن تمضى به الحياة فى سهولة ويسر مع ثراء وغنى ، لولا أن هبط عليه ابن آخر من أبناء بلده وطلب منه أن يساكنه .. وافق حامد إلا أنه لم يذكر لصاحبه بطبيعة الحال شيئا عن الإتجار بالحشيش . ويبدو أن الفتى لم يكن على صلة دائمة بالمال فكان يسرق أحياناً من المتاجر ... ومرة سرق فجاءوا له بالشرطة ومما قد يُتّبع فى حالة كتلك أن تصحب الشرطة الشخص إلى مسكنه لترى إن كان ثمة مسروقات أخرى ... اقتادوه إلى مسكنه فقادهم إليه مطمئناً إذ لم يكن بالمسكن شئ قد تشتبه الشرطة فى كونه مسروقاً .. وجد الفتى نفسه متهماً بالإتجار فى الحشيش وبحيازة ثلاثة كيلو جرامات منه ، وكذلك وجد حامد نفسه عند عودته إلى مسكنه ، إذ لم يكن موجوداً فيه عند التفتيش ، والحق أننى احترت من منهما يحق له أن يلوم صاحبه وما زلت متحيراً .. أظهر حامد شهامة فى التحقيقات إذ أقر أن الكيلوجرامات الثلاثة له وأن صلة لا تربط صاحبه بها ، ولكن السلطات لم تقتنع بهذا الإقرار .. إلى أن استطاع محامى الفتى إطلاق سراحه فى جلسة محاكمة تمهيدية .. ومما دفع به أنه لو كان متاجراً فى المخدرات لما كان فى حاجة إلى السرقة من المتاجر !! وكان أن أخذت المحكمة بهذا الدفع الغريب .


[ 11 ] كتاب "الإسلام والإرهاب" الذى حجزه الحارس عند بوابة السجن حصلت عليه من صديق مصرى مقيم فى النرويج عندما كنت فى زيارة لأوسلو قبل إلقاء القبض علىَّ بما يقارب الشهر ، أعارنى إياه على وعد منى بإرساله إليه بالبريد متى انتهيت من قراءته ، ولا أعلم متى سيكون بوسعى الوفاء بهذا الوعد .. الكتاب من تأليف الدكتور: " مارك جبريل " الذى يقدمه الغلاف كأستاذ سابق للتاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر بالقاهرة . أصدرته دار نشر فى نيويورك عام 2003 وعلى الغلاف الخلفى صورة للمؤلف لا يمكن أن تخطئ العين عند النظر إليها أن صاحبها مصرى ، والمؤلف يقر فى المقدمة أن الاسم على الكتاب هو اسمه الحالى وهو يختلف عن اسمه المسلم الذى أعطاه إياه والداه عند ميلاده .. ويروى قصة تحوله من الإسلام إلى المسيحية التى قادته إلى الإقامة بصورة نهائية فى الولايات المتحدة مروراً بجنوب أفريقيا حيث قضى بضع سنوات ، وتتتبع فصول الكتاب جذور الفكر الإرهابى الإسلامى الذى قاد إلى أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001 مع التأكيد على أن الإرهاب ليس ناتجاً عن خطأ منهجى فى تعامل الإرهابيين مع النص الدينى وإنما هو مرتبط بنيوياً بهذا النص بحيث لا يمكن فصلهما . وقصة المؤلف تبدأ من العام 1991 حيث كان يعمل أستاذا ً فى جامعة الأزهر ، حيث التوجه العام للعمل الأكاديمى يعتمد والكلام له – على إبراز الجانب السلمى من الإسلام وما إلى ذلك مما لا يمكن أن يصطدم بالنظام السياسى القائم ، الذى كان فى ذلك الوقت يخوض معركة دامية مع جماعات الإسلام السياسى وهى معركة كان فيها الأزهر جامعاً وجامعة يقف – والكلام مازال له – خلف النظام موجها الأساتذة إلى تدريس ما يتفق مع طرح السلطات حول الإسلام وكونه عقيدة تسامح وسلم وتعايش ، ويروى الدكتور جبريل حديثين أجبراه على أن يبدأ رحلة بحثية مستقلة فى نصوص القرآن بعيدة عن تخصصه الأساسى فى التاريخ الإسلامى ، الحدث الأول مناقشة جرت بينه وبين أحد تلاميذه عندما كان يلقى إحدى المحاضرات تبنى هو فيها الموقف الرسمى المصطدم مع فكر وأنشطة الجماعات وتبنى التلميذ الموقف المؤيد لهذا الفكر وتلك الأنشطة وكان أن هزم التلميذ أستاذه اعتماداً على القرآن ونصوصه .. الحدث الآخر مناقشة أخرى جرت بينه وبين أحد أصدقائه المنتمين إلى الجماعات ، " استنكر فيها الهجمات التى تعترض الأقباط ومشاريعهم التجارية ودور عبادتهم وسأله : لماذا تعتدون على شركائنا فى الوطن الذين نشأنا وتربينا معهم .. رد الصديق ساخطاً : أنت من بين الناس جميعا ينبغى أن تكون عالماً بالجواب ... القرآن لا يقدم لهم سوى خيارات ثلاثة .. الإسلام أو دفع الجزية عن يدٍ وهم صاغرون أو الحرب .. وكان قد أنهى هذه الرحلة البحثية مقتنعاً أن جماعات الإسلام السياسى إنما تبنى فكرها ومواقفها وأنشطتها على نصوص القرآن وأنها تعبر عن حقيقة الإسلام وأن استمراره فى تدريس طرح السلطات حول هذه الحقيقة يعنى أن عليه أن يتوقع هزائم حواريه أخرى من تلاميذه ، وفى الأزهر وفى اجتماع موسع لأساتذة جامعته ، وقف مجاهراً بهذا الرأى .. [ 12 ] " ماريو " سجين حلّ حديثاً ، تعرفت إليه فى ساحة التهوية ، حيث بدأت تدريجياً فى الخروج إليها مدفوعاً بالملل ، فوجئت بشخص ألمانى يتوجه نحوى متحدثاً بإنجليزية طلقة .. قال إنه مقيم فى مصر منذ أعوام ثلاثة وأنه يمتلك مشروعاً سياحياً فى الغردقة ، حيث يقيم هو وصديقته الألمانية التى اعتقلتها الشرطة المصرية بناءا على طلبٍ من الشرطة الألمانية .. ذهب لزيارتها فى سجن القناطر حيث هاله ما رأى من ظروف الاعتقال .. ولما طالت فترة اعتقالها تحت تلك الظروف ، أتى بنفسه إلى ألمانيا ليستفسر عن السبب الذى أخَّر ترحيلها .. فما كان من الشرطة الألمانية إلا أن اعتقلته هو الآخر على ذمة نفس القضية ولدفعه إلى الإدلاء بما لديه من معلومات عنها .. لم يخض فى تفاصيل القضية فلم أسأله عنها إلا أنه قال أن محاميه الألمانى أخبره أن الشرطة المصرية تماطل فى ترحيلها لأنها ترغب فى مبادلتها بشخص مصرى مقيم فى ألمانيا .. قلت له إننى أتمنى ألا أكون أنا هو ذلك الشخص فأغرق فى الضحك أما أنا فلم أضحك ، ولا أدرى ما الذى جعلنى أفكر فى هذا الاحتمال السخيف .. لم يكن هذا هو أسخف ما فكرت فيه مؤخراً ولا أكثره جنوناً .. وكان قد مرّ علىَّ ثلاثة شهور فى السجن وكانت مدة حبسى الاحتياطى تنتهى غداً ، وعلمت أن من حقهم تجديد حبسى ثلاثة أشهر أخرى وهكذا حتى ثمانية عشر شهراً !! دون محاكمة ودون توجيه أى تهمة ... هذا هو ما يتيحه القانون الألمانى تجاه الأجانب .. كان احتمال إطلاق سرحى فى الغد قائماً بقدر ما كان احتمال اعتقالى لما يزيد عن العام قائماً .. كان هذا كافياً ليقودنى إلى الجنون ... بالفعل كان الجنون يتسلل ببطء فى ثنايا تلك الأيام ..

[ 13 ] من قصص الجنون والحب والألم الجميلة لإدجار آلان بو " قصة بعنوان " برنيس " يقول : " أجايوس هو اسمى ... عائلتى لن أسميها ، إنها واحدة من أقدم الأسر فى البلاد .. لقد عشنا هنا بين جدران هذا المنزل الرائع لمئات خلت من السنين ، فى بعض الأحيان أتجول بين غرفه الصامتة ، كل واحدة منها موشاة بيد واحد من أعظم الفنانين .. ولكن المفضلة بينها لدى كانت دائما المكتبة ، هنا بين الكتب المكان الذى قضيت به أغلب حياتى . ولدت فى المكتبة .. نعم ، سمع العالم أول بكاء لى هنا ، والكتب التى تستند إلي هذه الجدران هى أول ما تدركه ذاكرتى ، لقد ولدت هنا فى هذه الغرفة ولكن حياتى لم تبدأ هنا ، أعلم أننى عشت حياة أخرى قبل هذه الحياة ، التى أحياها الآن ، أستطيع أن أتذكرها كحلم بلا ملامح أو جسد ... عالماً من المرئيات .. والسكون المختلط بالأصوات والظلال .. لقد استيقظت بعد هذه الليلة الطويلة ، فتحت عينى ورأيت ضوء النهار محدداً ، هنا فى هذه الغرفة معبأ بالآمال والأحلام .. وكطفل قضيت أيامى أقرأ ، فى هذه المكتبة ، وهنا كانت أحلام الطفولة ... السنون مرت ، وكبرت دون أن أشعر بمرورها وعندما أدركت أننى لم أعد صغيراً .. كنت قد وصلت بالفعل إلى منتصف العمر وأنا ما زلت أعيش هنا فى منزل آبائى . تقريباً لم أغادر المنزل ، كانت الساعات التى أقضيها خارج المكتبة تقل فتقل .. وهكذا تدريجيا ... العالم الحقيقى ..الحياة خارج هذه الجدران بدأت تظهر كحلم ، الأفكار البدائية .. الأحلام داخل رأسى كانت هى عالمى الحقيقى .. كانت كل حياتى" [ 14 ] كما توقعت ... جددوا حبسى لشهور ثلاثة أخر .. وبما أن القانون يتيح لهم حبسى احتياطياً لعام ونصف .. فقد قررت أن أوطن النفس على ذلك . الأفكار المتعلقة بما هو خارج السجن تنتمى إلى العالم خارج السجن .. يجب أن تنتمى أفكارى إلى ما بين هذه الجدران .. يجب أن أحيا فى " هنا " و " الآن" وليس فى " هناك" و" عندما " . وجدت نفسى أتأمل فيما حولى .. أين أنا ؟؟ بماذا أشعر ؟ بماذا أفكر ؟ كنت أستشعر الدماء وهى تنبعث فى عروقى .. وكذلك عضلات جسدى وهى تضطرب .. فكرت أن علىَّ أن أكتب ... لابد أن أكتب .. وهكذا أمسكت بالقلم وأسندت يدى إلى الورق وبدأت أكتب ... ولكن ماذا ؟ ماذا أكتب ؟؟ فكرت أن أصغى وأن أكتب ما أسمعه ، كان التليفزيون يعرض فيلما فكتبت ما أسمعه ينبعث منه موسيقى .. صوت كلام لرجلين ، جرس أو ما يشبه الجرس ، صوت امرأة . مرت سيارة فى الخارج فكتبت : صوت سيارة من الخارج ، صوت رجال فى الخارج ... توقفت عن الكتابة وبدأت أقرأ ما كتبته .. وجدت أننى فى الواقع كتبت مصادر ما سمعت من أصوات ولم أكتب الأصوات نفسها .. فكرت أنه سيكون ممتعاً أكثر ، أن أكتب الصوت نفسه وليس مصدره حتى لو وضعت أسماء من عندى لكل صوت ... وهكذا بدأت أصغى وأكتب وقد كتمت أنفاسى تقريباً .. كتبت : فيش وفيش ، فون فون ، ها ، وو ، يونى ، أها أها ، دوبوند ، أحمر ، كلاك كلاك ، ضرو فرو فرو .. تسلل إلىَّ وأنا أكتب شعور بالنشوة ما لبث أن تملكنى ، كان عدم قدرتى على التعبير عما أسمعه من أصوات بالكلمات والأحرف يعطى مذاقا جديداً لكل صوت مهما كان عادياً ومألوفاً .. بدأ كل صوت فريداً و كذلك ممتعاً فى حد ذاته أياً كان مصدره ، لقد شعرت أننى قد أمسكت مفتاحاً ما ... أستطيع أن أدخل من ذات المدخل إلى الألوان والمرئيات وإلى الملمس والمذاق .. فكرت أننا فى الواقع نمتلك عيوناً لا نرى بها وآذانا لا نسمع بها وأطرافا لا نمس بها ، إن كل شئ حولنا فى حد ذاته وبمعزل عن أى شئ آخر يمكن أن يكون مدعاة للبهجة . استدعت الفكرة فى ذهنى تجاربى مع المخدر .. كذلك فكرت أننى قد بدأت أطرق أول أبواب الجنون .. ليكن .. لقد وجدت مدخلاً إلى عالم واسع أحياه ... فى هذه الزنزانة الضيقة ..



[ 15 ] إذا صدقت قصة الدكتور جبريل فهو قد وقف بين أساتذة الأزهر قائلا أنه خلص من بحثه إلى أن الجماعات الإرهابية تستند فى فكرها وممارساتها على العقيدة الإسلامية وأن واجبه الأكاديمى يحتم عليه أن يعلن أن هذه العقيدة فى حاجة إلى مراجعة جذرية ، وبالطبع فقد تم طرده من الاجتماع والجامعة .. وفجر اليوم التالى دقت يد عنيفة أبواب المنزل العائلى الكبير حيث يعيش مع والديه وأشقائه وزوجاتهم .. واقتحموا المنزل لتفتيش حجراته مسلحون بملابس مدنية .. قادوه معهم مشيعاً باستفسارات أهله واحتجاجاتهم ، وعبثاً حاولوا معرفة مصيره فى الصباح .. لقد أنكرت أى جهة رسمية أى علاقة لها أو حتى علم بما حدث لقد كان فى الواقع بين يدى الشرطة السرية المصرية . ويروى الدكتور أنه قد وضع فى زنزانة مع معتقلين آخرين أحدهما مصرى والآخر فلسطينى كلاهما متهم بالمسئولية عن أنشطة إرهابية تابعة للجماعات الإسلامية . ولثلاثة أيام لم يعط أى طعام أو شراب وما زال المصرى يسأله عن سبب اعتقاله وهو يتهرب من الإجابة ، إلى أن قال له أخيراً إنه أستاذ بالأزهر وفى الحال زوده الآخر بخبز وفلافل ومياه غازية وطلب منه أن لا يخبرهم بذلك لأنهم شددوا عليه ألا يزوده بشئ وبعد أيام ثلاثة بدأ التحقيق .. تعرض خلاله للجلد بالسياط وللصعق الكهربائى ولغرس آلات حادة وإطفاء أعقاب سجائر فى جسده ، كان هدف المحققين – كما يقول – هو معرفة الجهة التى يتعامل معها والتى دفعته إلى التشكيك فى الإسلام . ويروى أنه قد أجبر على قضاء ليلة كاملة واقفاً فى خزان ممتلئ بالماء إلى ما يعلو عن كتفيه وأن جرذاناً ضخمة كانت تتقافز حول رأسه فى هذا الخزان ، ويقول إن واحداً من هذه الجرذان لم يعقره ويبنى على ذلك أن الله كان يقف إلى جواره فى تلك الساعات .. كما يقول إنه منذ تلك الليلة لا يتمالك نفسه من الشعور بالامتنان كلما رأى جرذاً .. وودت لو قلت له أن ما حدث طبيعى تماماً وليس فيه أى معجزة ، فالجرذان لا تهاجم الآدميين ... ولو حدث وعض جرذ إنساناً فإن ذلك لابد أن يكون دفاعاً عن النفس كأن يتقلب الإنسان نائماً فيفسر الجرذ الحركة هجوما ،، موقف آخر يؤكد به المؤلف أن المسيح كان يسانده فى تلك المحنة حتى قبل أن يصبح مسيحياً ... وهو أنهم قادوه إلى مقابلة " صديق عزيز " هكذا قالوا .. فتلمس الدكتور قطرات من الأمل إذ اعتقد أنه فى طريقه إلى مقابلة أحد معارفه ، فكان أن فتحوا باب غرفة لم ير بداخلها غير كلب بوليسى ضخم .. دفعوه إلى داخلها وأغلقوا خلفه الباب .. ويروى أن حالة من الانهيار انتابته ، جثا خلالها على ركبتيه داعيا ربه أن ينجيه وأن الكلب لم يسمه بسوء وإنما اقترب ولعق إحدى أذنيه .. راح الدكتور بعدها فيما يشبه الغيبوبة وعندما أفاق كان الكلب جالساً على مقربة منه ... فنهض كأنما يحييه واقترب منه مرة أخرى ولعق أذنه , والحق أن هذه الرواية لو صدقت لكانت مبعثا لبعض الدهشة ... فالكلب المعد لغرض كهذا لا مناص أن يكون جائعاً لعدة أيام .. مما يجعل سلوكه هذا عصيا على التفسير ، ومع ذلك فالكلاب قد تبدى سلوكا حميميا نحو إنسان ما دون معرفة سابقة ودون سبب واضح ..



[ 16 ] عندما تخرج من بين هذه الجدران ... على قيد الحياة ... جيداً ... حراً , تكون قد انتصرت ... هم سيحاولون تحطيمك لكن بداخلك ما هو غير قابل للتحطيم ... واصلت اختباراتى الجديدة مع الأصوات وقد قادتنى إلى التفكير أن ما نفضله أو لا نفضله هو ابن الثقافة ..هى التى تحدد لنا ما هو مفضل أو لا . عندما بدأت الإنصات بشكل كامل أدركت أنه يجب عزل الأصوات عن مصادرها وأماكن هذه المصادر . أسمع صوتاً غير قابل للتحديد .. قد يكون صوت طائر أو صوت منفاخ للهواء .. لماذا هو صوت ممتع إذا كان لطائر وضوضاء إذا كان لمنفاخ ؟ الجواب يتعلق بالبيئة والتربية والموروثات وليس رأياً شخصيا حتى يكون متجرداً من كل تلك العوامل . بدأت أقضى بضع دقائق يوميا فى النظر إلى الأشياء ... النظر فقط دون إصدار أية أحكام محاولاً تحييد الذهن والكلمات ... عندما كانت الأفكار تندفع إلى رأسى كنت أتركها تطفو إذ أدركت أن قمعها لن يولد إلا توتراً .. وقادنى ذلك إلى محاولة إحصاء ما حولى من ألوان .. تكشف لى العمق الذى كانت تتمتع به الحياة فى الخارج وكم كانت الأشياء جميلة وغنية .. واجهات المحلات .. الحدائق .. مواقف السيارات . إننا فى حياتنا العادية ، نصنف هذا كله فى خانة الضوضاء ونمر أمامه كراماً .. إن إنفاق دقائق قليلة يومياً فى لمس ما حولك .. خصوصاً فى أوقات التعب .. أو الاحتفاظ بقطعة من الطعام فى الفم حتى تذوب بالكامل هى اختبارات جديدة وجدية . [ 17 ] يواصل إدجار آلان بو فى " بيرنيس " : " بيرنيس من أقاربى ، أنا وهى نشأنا معاً هنا فى هذا المنزل ، لكن نشأتنا كانت مختلفة ، لقد كنت الطرف الأضعف ، دائما مريضا ، دائما غائباً فى أحلامى الثقيلة المظلمة ، كانت هى الطرف الصحيح القوى ، الممتلئ دائما بالحياة ، كانت لامعة كشمس مضيئة مشرقة ، كانت تركض فوق المرتفعات تحت السماء الزرقاء الواسعة .. وأنا كنت معتكفاً فى المكتبة ، كنت أحيا داخل جدران ذهنى ، مقاتلاً أصعب الأفكار وأكثرها إيلاماً ، بينما كانت هى تمضى سريعا سعيدة خلال الحياة ، غير عابئة بالظلال من حولها ، راقبت سنواتنا الأولى تطير بعيداً على أجنحة الزمن الصامتة .. بيرنيس لم تفكر أبداً فى الغد .. كانت تحيا يومها فقط بيرنيس .. أنادى اسمها .. بيرنيس !! يلبى ندائى صوتُُ عذبُ من الماضى .. أستطيع أن أراها بوضوح الآن ، كما كنت أراها فى صباها المشرق الجميل . أراها ... ثم فجأة لا أرى غير الظلام والرهبة والخوف .. انتهت أيامها الأولى المشرقة بالمرض – مرض مرعب – تسلل إليها كعاصفة مفاجئة ... راقبت السحابة القاتمة تمر عبرها ... رأيت كيف تغير الجسد وتغيرت النفس بالكامل .. عبرت السحابة وخلفت وراءها شخصاً لم أعهده ... من هذا الشخص الحزين الذى أراه ؟ أين ذهبت بيرنيس .. بيرنيس التى عرفت ؟؟ ... هذا المرض الأول سبب أمراضاً عديدة أخرى تعاقبت .. واحدُ منهما كان نوعاً بالغ الندرة من " الإبيليسى"

(1) .. يأتى دائماً فجأة بلا إنذار ، فجأة يتوقف عقلها عن العمل تسقط على الأرض .. محمرة الوجه .. ترتجف بالكامل .. مصدرة أصواتا غريبة .. عيناها لا تريان شيئا .. كان " الإبيليسى " ينتهى بها دائما إلى نوع من النوم الكثيف العميق .. أحيانا من العمق بحيث يصعب تحديد ما إذا كانت ما زالت على قيد الحياة أم لا ... وكما كان " الإبيليسى " يبدأ فجأة ... كانت تصحو فجأة .. كما لو أن شيئا لم يحدث ...

خلال تلك الفترة بدأ مرضى أنا يتطور إلى الأسوأ .. شعرت به ينمو بقوة يوماً بعد يوم .. دون أن أملك حياله دفعاً ، وبسرعة .. كما يحدث لبرنيس غيّر الموقف حياتى نهائيا ، لم يكن جسدى هو المريض ، لقد كان عقلى .. كان مرضاً عقلياً، أستطيع فقط أن أقول عنه إنه نوع من المونومانيا(2).

كنت دائماً أغيب لساعات ... عميقاً أفكر فى شئ .. شئ لا أهمية له إطلاقاً حتى ليبدو الأمر مضحكاً !! لكن .. أخشى أنه من المستحيل وصف الاستغراق الكامل الذى كنت أغيب فيه متأملا هذا الشئ بالغ الاعتيادية والبساطة . كنت أجلس لساعات أتأمل حرفاً واحدا فى كلمة فى صفحة ، أو ليوم كامل من أيام الصيف أشاهد ظلاً على الأرض ، كنت أجلس دون أن أرفع بصرى عن خشبٍ يشتعل فى الشتاء حتى يحترق بالكامل ... أو لليلةٍ كاملة حالما بعطر جذاب لزهرة صغيرة ، باستمرار كنت أكرر كلمة واحدة مرات ومرات لساعات حتى تصبح صوتاً بلا معنى .. عندما كنت أقوم بهذه الأفعال كنت أفقد أى إحساس بنفسى أو بالمكان أو الزمان أو حتى بما إذا كنت حياً ..

" لابد ألا يكون هناك سوء فهم ، يجب أن تفهم أن هذه " المونومانيا " لم تكن نوعاً من الحلم ، الحلم مختلف بالكامل .. الحالم وأنا أتحدث هنا عن الحالم المستيقظ وليس النائم .. يعتمد على العقل فى بناء حلمه ، كما أن الحالم دائما ينسى تقريبا الفكرة أو المفتاح الذى منه بدأ الحلم ولكن معى كان هذا المفتاح الذى منه تبدأ الحالة فى أعمق أعماقى .. دائما يظل ماثلا أمامى ، كان المحرك دائماً يبقى هناك فى مركز تفكيرى ، فى مركز كل شئ .. إنه المحرك للحالة وهو فى نفس الوقت موضوعها ..

ودائما دائما تستمر أفكارى تدور حول نفس المركز فى دورة لا نهائية ، حتى يصبح هذا المركز غير حقيقى ومع ذلك لا أجد نفسى قادراً على الفكاك منه .

أبداً لم أحب بيرنيس ... حتى فى زمن تألقها وجمالها ، ذلك لأننى أبداً لم استشعر من خلال القلب ، مشاعرى كانت دائماً فى عالم الذهن .

فى الضوء الخافت للصباح الباكر ، بين ظلال الغابة المتراقصة ، فى سكون مكتبى ليلاً .. تتحرك بيرنيس سريعاً برقة أمام عينى ، أبداً لم أر بيرنيس كشخص حى ، بالنسبة لى بيرنيس كانت دائما كالحلم .. لم تكن شخصا ينتمى إلى هذا العالم ..كلا .. أبداً لم أفكر فيها كشخص حقيقى ... كانت دائما كالفكرة ... شئ يمكن التفكير فيه ... وليس شخصاً يمكن الوقوع فى حبه ..

إذن لماذا تغير شعورى بعد مرضها ؟!

لماذا بعد أن تغيرت تغيراً بائساً وعنيفاً يهتز كيانى وتصعد دمائى عندما أراها قادمة نحوى ... هل لأننى رأيت التحول الفظيع الذى حدث لهذا الشخص العذب المحبوب ؟! هل لأنه لم يبق الآن من بيرنيس التى عهدتها سابقاً شــئ ؟! .

هذه حقيقة .. أبداً لم أقع فى حبها ، ولكننى أعلم أنها كانت دائماً تحبنى .. عميقا وهكذا يوماً ما لأننى شعرت نحوها بالأسف خطرت ببالى فكرى غبية وشريرة .. لقد طلبتها للزواج !! كان يوم زفافنا يقترب ، وفى ظهر يوم دافئ كنت جالسا فى المكتبة ، كانت السحب منخفضة وداكنة ، وكان الجو ثقيلاً .. كل شئ هادئاً .. وفجأة .. رفعت عينىّ عن الكتاب فى يدىّ .. رأيت بيرنيس واقفة أمامى ... كانت كشخص غريب فى عينى .. فقط ظل ضعيف للمرأة التى عهدت ... حتى أننى لم أعد أتذكر كيف كانت تبدو .. يا إلهى ، لقد كانت نحيلة جداً .. أستطيع أن أرى ذراعيها وساقيها من خلال الملابس الرمادية الشفافة التى تحيط جسدها الزاوى ... لم تقل شيئا وأنا لم أكن قادراً على الكلام لسبب لا إدركه ... ولكن فجأة شعرت برعب حاد ... ينتابنى كصخرة جبارة تهوى ... جلست على الكرسى متجمداً من الخوف .. هف شعرها الطويل حول وجهها ... كانت بيضاء كالثلج .. وللغرابة بدت هادئة وسعيدة ..

لكن لم يكن هناك ما يمت بصلة للحياة فى عينيها ... حتى أنها تبدو كما لو كانت لا ترانى .

راقبتها بينما كانت شفتاها النحيلتان الذاوبتان تتباعدان فى ابتسامة غريبة .. عجزت عن فهمها ... وبعد ذلك انجذبت عيناى نحو الأسنان .. أسنانها .. يا للسماء .. لماذا كان عليها أن تبتسم لى ... لماذا كان علىَّ أن أرى هذه الأسنان ...

(1) مرض خطير .. حيث فى وقت قصير يتوقف العقل عن العمل وينتفض الجسد ويرتجف.

(2) المونومانيا : التفكير فى شئ واحد أو فكرة واحدة وعدم القدرة على التوقف.




[ 18 ] و الضجر ...

هل خُلق هذا العالم فى لحظة عاتية من لحظات الضجر؟ .. تذكرت مقولة قرأتها لنجيب محفوظ " الضجر أول علامات الكفر " فاستغفرت الله وابتسمت >

إن علاقة السجين بالله هى علاقة بالتأكيد من أكثر العلاقات عمقاً وغموضاً فى هذا الوجود وتعود قصة يوسف دائماً لتطرح أقصى درجة من درجات الحدة والارتباك يمكن أن تأخذها هذه العلاقة ... أتذكر عبارة قرأتها فى إحدى مجلات " شهوريهوه " كثيرون يجدون المسيح فى السجن لكنهم عندما يخرجون ... يتركونه وراءهم".

عبارة أخرى أرغب فى تسجيلها : " السجن مقبرة الأحياء وشماتة الأعداء ومعرفة الأصدقاء " لم أعبر على سجن أو زنزانة فى تلك الفترة القصيرة إلا وقرأت هذه العبارة ولا شك عندى أن المغاربة هم من يقوم بكتابتها . عبارة علمهم إياها طول الغربة ... وطول السجون ... [ 19 ] قضاء ثلاث وعشرون ساعة يومياً فى زنزانة ضيقة لخمسة أشهر ... يضع المرء أمام أسئلة صعبة مع توالى الأيام تستقر النفس ويصبح كل شئ اعتياديا حتى أن المرء ليتساءل عن الذى يفتقده تماماً فى الخارج .. مشاهدة مباراة فى كرة القدم فى مقهى أو بار ، ركوب القطار ، شراء الكحول ، شراء وجبة سريعة ، ركوب الدراجة ، الانطلاق ماشياً فى يوم حسن الطقس ، لكن الخارج يحمل فى ذاكرته أيضاً تجارب محبطة .. الجلوس فارغاً ، مشاهدة وجوه تعيسة ، أفكار وذكريات سيئة ، الإفلاس هذه الزنزانة الضيقة تتسع أيضاً للنقيضين ... أحيانا تنتشر فيها رائحة القهوة الطازجة ، فتسبب متعة ونشوة واسعة ، الأمر نفسه يحدث عندما يأتى من النافذة نسمة منعشة ... محملة بعطر ما ... ثم سرعان ما أشعر بخدر فى ساقى أو نغزة فى ظهرى أو تنتابنى حالة فراغ وتعاسة وسقم تتلاشى سريعاً عندما يشد انتباهى سباق للدراجات البخارية فى التليفزيون . الواقع أن هذه الزنزانة تحتوى عالماً شديد الاتساع حتى أنه يصعب تماماً الإحاطة بكل جوانبه مما يضع المرء مباشرة أمام سؤال الحرية !! ما هى الحرية وكيف يمكن تحقيقها ؟؟؟ هل تتحقق الحرية إذا ما كنت شابا وجميلاً .. أو إذا ما كنت غنياً .. أو إذا ما كنت قوياً ومتحكماً ؟ إن كل ما سبق لا يمثل حرية المرء الحقيقية إلا بالمقارنة بالآخرين .. الذى يمكن أن تكون العلاقة بهم فى ذاتها سجناً آخر ... يصعب أحياناً الفكاك منه . إن الكثير مما نفعله أو نقوله أو نفكر به هو فى الأصل متوجه لإرضاء الآخرين بصورة مباشرة أو غير مباشرة وبنفس الديناميكية التى نختار بها ملابسنا وكاختيارنا للملابس الجاهزة نختار أحياناً مبادءنا واتجاهاتنا .. عندما يخرج السجين من السجن على قيد الحياة ... جيداً.. حراً... يكون قد انتصر على سجانيه ... [ 20 ] الدكتور مارك جبريل خرج من السجن سريعاً جداً .. شقيق والدته عضو فى مجلس الشعب ، وكان فى الخارج عند إلقاء القبض عليه وسرعان ما عاد وبعد ساعات من عودته زاره فى السجن ومعه قرار الإفراج .. [ 21 ] كان سيد قطب هو أول من قدم نجيب محفوظ إلى القراء ، كتب مقالا رائعاً عن " خان الخليلى " وكيف أننا نستطيع الآن أن نقف قامة الى قامة امام آداب العالم الحديثة .. تحدث عن أدب قومى يؤثر ولا يذوب . من المرعب حقاً محاولة الاقتراب من الكيفية التى أثرت بها تجربة السجن الأولى فى حياة هذا الرجل ... لقد خرج القلم المنغمس – بلا رياء – فى عشق بلاده ..

خرج لسانا من كره و نار لا تبقى ولا تذر ..




[ 22 ] وتتوالى أيام الاثنين ... طبيب سورى مسن أتوا به إثر إجرائه عملية إجهاض غير شرعية .. صدقت محكمة الاستئناف على الحكم الصادر فى حق " يموليسكاس " بالسجن لعشرة أعوام ، وقد أطار ذلك النوم من عينى لليال طويلة ، إذ خشيت أن يجرب حماقة ما .. إلى أن عادت الطمأنينة إلى نفسى ، بدا هادئاً وسعيداً .. ومستسلما للمقادير .. بصقت على حارس فقضيت أسبوعاً فى زنزانة انفرادية للتأديب ... سودانى معتوه تعرفت عليه فى ساعات التجوال صدع رأسى بتأييده السخيف لابن لادن ... قلت له مرة – مدفوعاً بالملل – إننا نعيش فيما بعد الحادى عشر من سبتمبر حربا عالمية ذات نمط ما بعد حداثى .. لم يفهم هذا الحمار .. بالطبع ما عنيته ، ولم يعد إلى الحديث معى مرة أخرى . وما أعرف من سعادات الدنيا سعادة تعدل سعادة الخارج من مقام الرجاء إلى مقام النوال ...

ظهراً ...

بعد مرور ثمانية أشهر وأربعة أيام على اعتقالى .. فُتح باب الزنزانة . فى وقت غير اعتيادى ، دخل الحارس وتحدث إلىّ بالألمانية ... استعدته ما قال رغم أننى فهمت كل حرف ..كان عقلى رافضا أن يصدق ... أعاد ما قاله مبتسماً بالإنجليزية هذه المرة : " عليك بإعداد أشيائك ... سوف يطلق سراحك الآن " انتهت إجراءات الإفراج سريعاً ، بعد أقل من ثلاثين دقيقة على فتح الحارس لباب الزنزانة كنت أجوب الشوارع الألمانية ... على قيد الحياة ... جيداً .. ومن جديد حراً ..


(ملحوظة: طبعت هذه الرواية بالقاهرة في أواخر عام 2008)



9 views0 comments
Post: Blog2_Post
bottom of page